الجامعات ترجّح التدين على المواطنة والمدنيّة

Saturday, 23 April 2016 - 1:00am
منذ العام 2008 تغيب الحياة الديموقراطية عن كليات الجامعة اللبنانية كافة، لتحلّ محلها «عادات التوريث الطلابي». في 8 نيسان الماضي، انتظر طلاب «اللبنانية» بلهفة أن يزف لهم الأستاذ الجامعي فضل موسوي بشرى عودة الانتخابات الطلابية إلى الجامعة. إلا أن ذلك لم يحدث، فقد نجحت التحالفات السياسية مجدداً في «تطيير» القرار داخل مجلس الجامعة. ملّ الطلاب مُصادرة حقهم في الانتخاب، لدرجة أنهم باتوا غير معنيين باسترجاعه، انطلاقاً من أن «فاقد الشيء لا يعطيه». بات طلاب «اللبنانية» كـ «الروبوت»، مشاركتهم في أي نشاط لا تتعدّى كونها مشاركة تنفيذية لـ «أوامر» خارجية. وها هم يفقدون أي حافز على الإبداع والعمل المدني، وسط استفحال المذهبية وغياب الذهنية المواطنية.
تلك الخلاصة عن تراجع دور الجامعات الرسمية والخاصة والطلاب في العمل المدني العام توصلت إليها مجموعة من الدراسات والبحوث الميدانية عرضتها «الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية» و «معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية» في مؤتمر نظّمته بعنوان «الدور المدنيّ للجامعات العربية» عُقد في الجامعة الأميركية في بيروت، على مدى يومَي أمس وأمس الأول.
قدّم المؤتمر نبذة عن تاريخ العمل الطلابي في الجامعة اللبنانية، عرضها موسوي، حيث أشار إلى أن «الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية» أنشئ في العام 1971، وما لبث أن توقف عن العمل مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. وفي العام 2000 جرت محاولات لإعادة إحيائه، وتمّت الانتخابات في مجالس الفروع بشكل دوري، إلا أن الانقسام الحزبيّ الحاد داخل الجامعات أدّى إلى منع الانتخابات مرّة جديدة. ومنذ تسع سنوات تقريباً، باتت المجالس عاجزة عن القيام بدورها كما يجب، ما ساهم في تحويل الجامعة اللبنانية إلى ما يشبه الـ «كانتونات». لا يحمل معظم متخرجيها قيم المواطنة، فهي «تُخرّج أفراداً كفوئين مهنياً ولا تُخرّج مواطنين»، على حدّ تعبير أحد الأساتذة في المؤتمر. وشيئاً فشيئاً تنحسر قدرة «اللبنانية» التغييرية نظراً لعدم أهليتها البنيوية فلا تقوم بأكثر من إعادة إنتاج السائد. وتطغى فيها النشاطات الدينية بنسبة أكثر من 70 في المئة على حساب النشاطات العلمية والثقافية والاجتماعية، مثل الاحتفال بعيدَي «الميلاد ورأس السنة» في كلية الإعلام في الفرع الثاني، وبـ «جائزة الفكر الإسلامي الأصيل» و «ذكرى ولادة النبي محمد» و «ولادة السيدة زينب» في كلية العلوم في الحدث، بحسب إحدى الدراسات. فعن أي دور مدني نبحث في جامعاتنا؟ وهل الأساتذة والطلاب مؤهلون لممارسة هذا الدور في ظل الهيمنة الحزبية والفرز الطائفي والجنوح نحو المزيد من التقوقع والمذهبية؟ وما هو مستقبل الحركات الطلابية في الجامعات؟

«اللبنانية»: خضوع سياسي وتلقين أكاديمي
بحسب دراسة أعدّتها الباحثة سوزان أبو رجيلي، تضمنت إجراء 10 مقابلات، تبيّن أن «في (اللبنانية) استبعاد شبه تام للمشاركة الطلابيّة التمثيليّة في حياة الجامعة، مع هيمنة المشاركة التمثيليّة للأحزاب ضمن الأوساط الطلابيّة، والتي قلّما تحمل المعاناة والحاجات الحقيقيّة للطلاب. وتعدّد العوالم المدنيّة الخاصّة بكل موقع من مواقع أهل الجامعة، بحيث يظهر الطلاب وكأنهم في عالمهم الخاص ذي الصلة الضعيفة بعوالم الإدارة والأساتذة، مع امتلاك كل من هذه العوالم لعلاقته الخاصّة بالجامعة وبأهلها ولعاداته واعتباراته الجامعيّة. مع ما يسجّل من ضعف تواصل هذه العوالم الثلاثة ببعضها البعض، ونقص اطلاع الأكاديميين والطلاب على واقع التنظيمات والقوانين».
وأشارت الدراسة إلى وجود تباين في تمثيل النساء ضمن مواقع القرار وفقاً للمواقع وللكليّة، بنسب تتراوح بين صفر و90 في المئة. ولفتت الانتباه إلى تفاوت الآراء حول قيام الممارسات في الجامعة على حكم القانون ونقص الموضوعيّة والتجرّد وتدخّل الوساطات. فضلاً عن إحباط الطلاب وغياب القيادة التحويلية لرعايتهم وتشجيعهم على بناء مشاريع. بالإضافة إلى تخصيص حيّز للحفظ والتذكّر ضمن الامتحانات (بين 30 و100 في المئة) وتنوّع في التثقيل المخصص للامتحانات النهائية (بين 60 و100 في المئة)، وغياب استراتيجية جامعيّة لتحديث طرائق التعليم الجامعي.

مذكرات طالبة جامعية
خلال المؤتمر، عرضت الطالبة هلا أبي صالح مجريات وأحداث السنة الجامعية 2014-2015 في كلية الحقوق والعلوم والسياسية ـ ماجستير 2 علاقات دولية، استناداً إلى أقوال عدد من الطلاب. أجمع هؤلاء على غياب توصيف للمقررات السنوية التي سيحصلون عليها، منذ دخولهم الكلية. وأوضحت أبي صالح أن «بعضهم لم يفهم تعبير (توصيف مقرر)، وهذا دليل على أنهم لم يحصلوا على مقررات منذ سنوات الإجازة»، مشيرةً إلى أن «الطلاب أكدوا أن أحد الأساتذة لم يعلّم مضمون مقرره، بل علّم مقرراً آخر من السنة المنهجية السابقة. فيما قام أستاذ آخر بتعليم مقرر مضمونه لا يتناسب مع متطلبات اختصاص العلاقات الدولية».
وكشفت المذكرات التي قدّمها الطلاب أن «التلقين كان الأداة الأبرز للتعليم، والنقاشات محدودة في معظم المحاضرات»، مشيرين إلى أن «أحد الأساتذة كان غير ديموقراطي في إدارة النقاشات».
أما عن الأسئلة في الامتحانات، فأكدت المذكرة أن «أكثر من طالب ذكر أن الأسئلة في الدورتين كانت تعجيزية»، ملمّحين إلى «عدم إمكانية التحدث مع الأستاذ لمعرفة أخطائهم أو سبب رسوبهم». كما أشار أحد المشاركين إلى أن «النجاح في أحد الامتحانات يستند إلى مدى حفظهم للكتاب كلمة كلمة».
وأكدت أبي صالح أن «أكثر من طالب اعترف بأنه عند الإجابة على امتحان ما، لا يكتب قناعاته أو رأيه أو تحليله، بل ما يريده الأستاذ بحسب ميوله السياسية لضمان النجاح».
الكلام المذكور اعترض عليه عدد من الأساتذة الحاضرين. وقف أحدهم وسط القاعة متوجّهاً إلى أبي صالح بالقول: «هل سألت الطلاب إن كانوا راسبين أم لا؟»، مضيفاً أنه «من المؤكد أنهم لم ينجحوا، لأنهم لو فعلوا لما كانوا تحدثوا بهذه السلبية». وردّ متهكماً: «سجّلي هنا (مذكرات أستاذ جامعي)»، مشدداً على أن «سنوات التعليم الخمس الأخيرة هي الأسوأ. فمستوى الطلاب الثقافي غير مقبول، ولا يملكون أي نوع من الانضباط أو الالتزام أو الجديّة».

الجامعات العربية: 5 من أصل 33 تعتمد خطاباً مدنياً
تقف ثورات «الربيع العربي» وما تبعها من تحول دراماتيكي في الأحداث وراء التفكير بمشروع البحث عن الدور المدني للجامعات العربية، بحسب ما كشف مدير المشروع الأستاذ المحاضر في الـ AUB عدنان الأمين.
يوضح الأمين أن «التظاهرات السلمية دلّت على وجود مخزون مدني لدى المتظاهرين، وجلهم من متخرجي الجامعات. فيما كشفت الأحداث التي تلت ضعف المخزون المدني في عمق المجتمع، حيث تحول الأمر إلى عصبيات قبلية وتطرف ديني ونزاع مسلح بين الجماعات»، مشدداً على أن «الأحداث السياسية الطبيعية لا يكون لها وقع إلا في بيئة عميقة تتلقفها، ومؤسسات التعليم العالي جزء من هذه البيئة كمناخ داخلي وزاد مدني تحمله للمتخرجين الذين تضُخهم في المجتمع، ولا بد من البحث إلى أي مدى تلعب الدور المدني المنوط بها».
وأكد أن «المقصود بالدور المدني، النظر بما توفره أو يمكن أن توفره الجامعات العربية من مناخ مدني لطلابها»، مشيراً إلى أن «ذلك يتجسّد في مجموعة من القيم والمعارف والمهارات والمواقف العامة التي تنتظم تحت عناوين مثل: الديموقراطية والمواطنة وثقافة القانون وتعليم العلوم الإنسانية والاجتماعية وخدمة المجتمع والالتزام المدني وبيداغوجيا (تربية) التقصي والمداولة. وهي تظهر في الخطاب الجامعي والأنشطة والبرامج والمقررات الحاكمة وغيرها».
وعرض الأمين دراسة شملت نحو 36 جامعة (8 في مصر، 4 في كل من لبنان وتونس، و1-2 في 12 بلداً عربياً) تركّزت على الخطاب والمناهج والأنشطة والوحدات غير المدنية، أظهرت أن «جامعة الأزهر» مثلاً، لا تورد في خطابها مطلقاً كلمة «ديموقراطية» أو كلمة «حرية». وتحلّ في خطاب «الجامعة اليسوعية» كلمة «التعدد» بدلاً عن كلمة «التنوع». أما في جامعة «Esprit» في تونس لا ترد فيها أي جملة تشير إلى أبعاد الدور المدني باستثناء البعد البيداغوجي. وفي جامعات تونس والمغرب والجزائر فلا تأتي على ذكر «خدمة المجتمع» بخلاف الجامعات المصرية.
ولأن خطاب الجامعات يُعتبر في ثلثي الحالات منجماً لفهم الثقافة السائدة لجهة المضمون، تمتنع معظم الجامعات عن نشر خطابها على المواقع الالكترونية الخاصة بها، ما عقّد عملية البحث الميداني، وجعلها تقتصر على 33 جامعة تمكن القيّمون على الدراسة من تحليل خطابها.
وأظهرت النتائج أن «الجامعة الأميركية في بيروت» (AUB) هي الجامعة الوحيدة من ضمن المجموعة المُستقصاة التي تعتمد خطاباً وبرنامجاً ومقررات مدنية، في حين أن 10 جامعات تعتمد برامج إلى حدٍ ما ترتبط بالمدنية، مقابل 5 فقط تعتمد خطاباً مباشراً مدنياً. أما لناحية المقررات فإن 4 جامعات فقط تقدّم مقررات تتصل بالمدنية. ما يعكس ابتعاد الجامعات عن المقاربات المدنية والاتجاه المتزايد نحو الخطاب الديني المتطرف أحياناً، ولاسيما في الجامعات ذات البعد الطائفي.
من جهته، قدّم الأستاذ المساعد في قسم الاجتماع في كلية الآداب في جامعة حلوان في مصر خالد عبد الفتاح عرضاً عن «المسؤولية المدنية للجامعات المصرية: جامعة القاهرة نموذجاً»، مشيراً إلى أن «حرية التعبير فيها ترتفع لدى القيادات ورؤساء الأقسام وتقلّ إلى حدٍ ما بين الأساتذة والطلاب»، مؤكداً «تفصيل المسار الودّي في حلّ الخلافات بين الطلبة والإدارة على المسار الرسمي والقانوني». كما أوضح أن «مشاركة الطلاب في اتخاذ القرارات نادرة جداً».
بدوره، أكد الأستاذ المساعد بقسم علم الاجتماع في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة «صفاقس» - تونس، أن «الوضع العام في الجامعة ليس قاتماً»، مشيراً إلى أن «هناك إجماعاً على وجود انتخابات طلابية تؤمنها عادة الإدارة، وان حرية التعبير داخل الجامعة تكاد تكون مطلقة للطلاب والأساتذة». وذكّر بالرمزية التي تمثلها جامعة «صفاقس» لكون عدداً من المواجهات وقع في إحدى كلياتها إبان الثورة التونسية.

«تالوار»
وقَّع إعلان «تالوار» (Talloires Declaration) حول «الأدوار المدنية والمسؤولية الاجتماعية للتعليم العالي» في العام 2005، 29 رئيس جامعة من 23 بلداً، من بينها أربعة بلدان عربية. ووصل عدد الجامعات الموقعة في العام 2012 إلى 247 جامعة وكلية. كما ذهب عدد من الجامعات العربية إلى حد إنشاء «تحالف الجامعات العربية نحو المشاركة المدنية ـ معاً»، كشبكة فرعية إقليمية لـ «تالوار» في العام 2008.
ويهدف التحالف إلى جمع الجامعات العربية معاً لتحقيق هدف جماعي هو تشجيع تطبيق الالتزام المدني وتحسينه في التعليم العالي.

لبنان ACGEN السغير تربية وتعليم