الحق بالصحة في لبنان: أية استراتيجية ؟

Thursday, 31 December 2015 - 12:00am
الحق بالصحة هو حق أساسي من حقوق الإنسان وفي الوقت نفسه شرط من شروط التمتع بالحقوق الأخرى لأنه "إن لم تكن الصحة كل شيء فما نفع كل الأشياء بدون صحة". ويعني الحق بالصحة من منظور العهد العالمي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية حق كل إنسان بالتمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسدية والعقلية/النفسية يمكن بلوغه (1966).

ليس هناك ما يغني عن الحصول على الرعاية الصحية والاستفادة منها حتى يتمتع الإنسان بموفور الصحة كغيره. ويعد نظام الرعاية الصحية في حد ذاته عاملاً اجتماعياً محدداً للصحة ، وهو يتأثر بسائر العوامل الاجتماعية المحددة للصحة كما يؤثر فيها.
وينحصر بحثنا في دراسة مدى حصول كل فرد لبناني على حقه بالرعاية الصحة، أي حقه بالوصول إلى خدمة صحية ذات نوعية جيدة بكلفة تستطيع الدولة والمواطن تحمل أعبائها، لذلك سوف نرصد الواقع الصحي في لبنان على ضوء اهم المؤشرات

اولاً: كلفة الرعاية الصحية وقدرة الدولة والأسر على تحملها
وصلت كلفة الفاتورة الصحية في العام 1995 الى مستوى 14.33% من الدخل الوطني (وهي من أعلى النسب في العالم)، ثم تراجعت تدريجا حتى وصلت إلى مستوى 8.2% في العام بحسب الدراسة الوطنية لموازنة الأسرة 2005. وبرغم تراجعها إلى هذا المستوى تبقى اعلى من متوسط الفئة التي ينتمي إليها لبنان بحسب متوسط دخل الفرد (الشريحة العليا من فئة البلدان المتوسطة الدخل)، والتي يبلغ متوسط كلفة الفاتورة الصحية فيها 5% من إجمالي الدخل الوطني، وتتخطى متوسط اجمالي الفاتورة الصحية في البلدان الغنية (أوروبا وأميركا الشمالية واليابان)، وهو 8% من الدخل الوطني لهذه البلدان (6% فقط في كل من بريطانيا وإيطاليا ) بحسب تقرير البنك للعام 2012.
ويجب الإشارة إلى أن الكلفة الإجمالية للرعاية الصحية بالنسبة للدخل استمرت بالتراجع لتستقرعلى معدل 7.3% تقريبا في السنوات الثلاث الماضية، وتبقى الأعلى في الدول العربية بما فيها الدول البترولية World factbook 2013. وتبقى هذه النسبة كبيرة إذا ما ذكرنا ان نصف اللبنانيين لا ينتسبون لأي شكل من اشكال الضمان وبالتالي لا يحظون بنفس حجم ومستوى الرعاية كالمنتسبين إلى احد اشكال الضمان.
وتتحمل الأسر جزءاً كبيراً من الفاتورة الصحية فقد أظهرت دراسة ادارة الإحصاء المركزي 2005 ان نسبة ما تدفعه الأسرة من موازنتها بلغت 44 % من إجمالي كلفة الرعاية الصحية لأفرادها (وهي من اعلى المعدلات في المنطقة العربية)، وما يعادل 14.1% من متوسط موازنة الأسرة. كما سجلت الدراسة نفسها أن معدل ما تدفعه الأسرعلى الأدوية (48.17%)، وعلاج الأسنان (7.33%)، والمعاينات الطبية الخارجية (11.79%) تشكل بمجموعها ثلثي ما تدفعه الأسرة على الخدمات الصحية. وهذا يظهر اهمية تعزيز خدمات الرعاية الصحية الأولية لتأمين وصول الفئات غير المنتسبة إلى اي شكل من اشكال الضمان إلى الخدمات الأساسية التي تحتاجها مكفولة النوعية، مقبولة منهم، وبكلفة قادرين على تحملها.

ثانيا: تكافؤ الفرص في الوصول إلى الخدمات الصحية ومدى موائمتها مع مبدأي التكافل والعدالة
وننتقل الآن إلى مقاربة الحق بالصحة لكل مواطن من منظار تكافؤ الفرص في الحصول على الخدمات الصحية ونوعيتها. هناك كم كبير من المؤشرات التي يمكن الاستدلال بواسطتها على مدى حصول كل مواطن على الخدمات الصحية ونوعيتها، إلا أننا اخترنا منها ثلاثة مؤشرات:
1 - وفيات الأطفال والذي يعبر بدقة عن المستوى الصحي الاقتصادي والاجتماعي لمجتمع أو منطقة ما . وهذا المؤشر يدل على أن الأطفال المولودين في مناطق الشمال(خصوصا عكار والمنية/الضنية) والجنوب والبقاع (خصوصا بعلبك والهرمل ) معرضون للوفاة خلال السنة الأولى من العمر مرتين إلى ثلاث مرات أكثر من أقرانهم المولودين في بيروت وجبل لبنان. كما اظهرت الدراسة الوطنية لصحة الأم والطفل في مرحلة ما حول الولادة ان مكان الإقامة لايزال يلعب دورا مهما في تحديد احتمال الوفاة فشكلت الأقضية الأربعة (عكار، والمنية – الضنية، وبعلبك والهرمل) المكان الذي يزيد من احتمال الوفاة للمواليد بغض النظر عن موقعهم الإجتماعي او الإنتساب إلى إحدى مؤسسات الضمان.
2 - حجم المنتسبين إلى إحدى مؤسسات الضمان: وهنا ايضا يظهر تميز العاصمة وجبل لبنان عن باقي المحافظات.
3 - تفاوت نسبة الفقر لمجموع السكان بين المناطق: نسبة الأسر التي التي يقل دخلها عن الحد الأدنى للأجور في محافظات الأطراف هي مرتين إلى ما يقارب ثلاث مرات مثيلاتها في العاصمة.
4 - العلاقة بين الإنتساب إلى احدى مؤسسات الضمان والدخل الشهري: اظهرت الدراسة الوطنية لموازنة الأسرة وجود علاقة وثيقة بين الدخل الشهري للأسرة والإنتساب إلى احدى مؤسسات الضمان، ففي فئة الدخل الدنيا (<300.000ل.ل شهريا) بلغت نسبة المنتسبين (24%) في حين تحظى فئة الدخل الأعلى (>5ملايين ل.ل شهريا) بنسبة تصل إلى (75%). وهذا ما توصلت اليه دراسة وضع الأطفال في لبنان 2000 حول العلاقة بين وفيات الأطفال والقدرة على الوصول إلى الخدمات الصحية والدخل ايضا.
5 - الفئات الإجتماعية التي ينتمي غير المشمولين بأي شكل من اشكال الضمان: إن القسم الأكبر لغير المشمولين بأحد أشكال التأمين هم ذوو دخل محدود : 19% من الذين يمارسون عملا متقطعا أو ظرفيا و14% من الذين يقومون بعمل موسمي فقط منتسبون إلى الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي. اما المتعطلون عن العمل فلا ضمانات لهم حتى الآن، وبعد بلوغ سن التقاعد يحصل العمال والأجراء والموظفون في القطاع الخاص على تعويض نهاية الخدمة، اما نظام التقاعد بما فيه الضمان الصحي لجميع العاملين في القطاع الخاص النظامي فلا وجود له في لبنان. فقط موظفو ادارات الدولة واجهزتها الأمنية والقضاء، إلى الرؤساء والنواب السابقين والحاليين ينعمون بميزتي التقاعد والضمان الصحي: أي ان السياسة الرسمية للدولة اللبنانية حتى الآن لا تعطي الأولوية للفئات الأكثر حاجة والتي يجب التوجه إليها لمساعدتها بحسب المبادىء التي يستند اليها الحق بالصحة .
6 - العدالة (Equity): لنتوقف اخيرا عند مؤشر العدالة والتي تعني حصول الجميع ما أمكن على نفس مستوى ونوعية الخدمات. يتميز النظام الصحي بصفة بنيوية ثابتة هي التميز في العطاءات بين الذين ينتسبون إلى مؤسسات الدولة الضامنة . وتختلف عطاءات المؤسسات الضامنة بين مؤسسة واخرى، وحتى داخل داخل المؤسسة الواحدة حيث يتميز موظفو الفئة الأولى في الإدارات العامة واساتذة الجامعة والقضاة ومن يوازيهم بالفئة في المؤسسات العسكرية وعائلاتهم بالإستشفاء في الدرجة الأولى بينما يتم استشفاء العاملين الآخرين في الدرجة الثانية ! واخيرا وليس آخرا هناك صناديق التعاضد التي تستقطع من ضرائب محددة قانونا ومن موازنة الدولة السنوية لتغطية الفروق في الفتورة الإستشفائية للمؤسسة الضامنة من فاتورة الإستشفاء وعطاءات اضافية اخرى. ولزيادة في التمييز فإن موظف الدولة يستطيع ضمان والديه بعد بلوغهم 64 عاما وبالإمتيزات!
اما نصف اللبنانيين الذين لا ينتسبون لأي مؤسسة ضمان فيتلقون خدماتهم الإستشفائية على نفقة الوزارة، بدرجة خاصة بهم تسمى "درجة الوزارة (ثالثة؟). ولا يمكن أي مراقب ان يرى فيها مساويا لما تقدمه المؤسسات الضامنة، اما ادوية السرطان والأمراض المستعصية فتقدمها الوزارة مجانا لجميع اللبنانيين غيرالمنتسبين لإحدى المؤسسات الضامنة بغض النظرعن وضعهم الإجتماعي، وهذا يتنافى مع مبدأ التكافل بين فئات المجتمع. أما الخدمات الصحية الأخرى كالإستشارات الطبية والأدوية فهي تشكل القسم الأكبر من الفاتورة الصحية للأسرة وتتم من طريق المركز الصحية والمستوصفات التي تتفاوت خدماتها تنوعا وجودة .
وهكذا نستنتج بوضوح كامل ان مبدئي التكافل(أي تحويل الموارد إلى الفئات الأكثر حاجة اجتماعياً)، والعدالة (وتعني حصول الجميع ما أمكن على نفس مستوى ونوعية الخدمات) لا يتوافران في النظام الصحي اللبناني. لذلك فإن أية استراتيجية تضع هدفا لها الحق بالصحة لكل اللبنانيين عليها ان تلتزم بالمعايير العالمية للحق بالصحة والتي يعترف بها لبنان نظريا وحتى قانونيا ولكن المسار العملي تميزي وإقصائي بإمتياز.
إن أقصر الطرق وأكثرها عدالة وجدوى صحياً واقتصادياً هو استبدال نظام العطاءات والخدمات غير المضمونة والإستشفاء على نفقة وزارة الصحة العامة بنظام جديد يسترشد بحق كل إنسان بالصحة وتنفيذه على مراحل وصولاً إلى تأمين صحي شامل لجميع اللبنانيين يقوم على المبادئ نفسها التي نشأ عليها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي: مبدأ التكافل والتضامن بين الدولة والشعب، بين الفئات الاجتماعية حسب دخلها، وبين الأجيال.

المدير السابق لبرامج اليونيسف في لبنان

(نظرا الى ضيق المجال اضطررنا لحذف الجداول المرفقة بالنص وبعض الفقرات)

ACGEN اجتماعيات النهار صحة