Thursday, 10 September 2015 - 12:00am
نجحت احتجاجات أمس ضد حوار الزعماء في إبقاء الشارع متقداً ولم تخلُ من الحماسة المعهودة، إلا أن المشاركة جاءت أقل بكثير مما كانت عليه في يوم 29 آب، وهو ما طرح أسئلة كثيرة عن الأسباب والعوامل. فهل يكفي التذرّع بالعاصفة الرملية والإجراءات الأمنية غير المسبوقة التي أقفلت كل وسط بيروت، للقول إن تراجع المشاركة ليس أمراً مهماً يستحق البحث والنقاش؟ الكثير من المشاركين أمس كانوا يرددون أسباباً أخرى ويعبّرون عن قلقهم من تفويت الفرصة، فالمطلوب برأيهم أن تتقدم حركة الشارع أكثر نحو هواجس الناس ومطالبهم الفعلية، لا أن تبقى تراوح مكانها بلا وضوح كافٍ
منذ الساعة الرابعة والنصف بدأ الناس ينزلون إلى ساحة الشهداء. الناس الذين نزلوا إلى الساحة قبل موعد التظاهرة بقوا قلقين من ضعف الاستجابة هذه المرة، خصوصاً أنّ عقارب الساعة اقتربت من السادسة والأعداد لا تزال قليلة. تذرّع العديد من المنظمين بعاصفة الغبار لتبرير «التراجع»، اعتبروا أن «الطقس منع الكثيرين من النزول، خصوصاً أولئك الموجودين في المناطق»، فيما برر آخرون تراجع أعداد المشاركين بحملات التهويل الأمني والتخويني التي أعقبت تظاهرة 29 آب. لم تستمر خيبة الذين حضروا باكراً.
سرعان ما بدأ الناس يتدفقون إلى الساحة ضمن مجموعات من مختلف الجهات. مجموعة «الشعب يريد» جمّعت أفرادها منذ الساعة الخامسة تحت جسر فؤاد شهاب والتحقت بالتظاهرة بعيد السادسة. كذلك فعلت مجموعة «بدنا نحاسب» التي رفعت شعاراتها ودخلت إلى الساحة من جهة جامع محمد الأمين. من جهة الصيفي، كانت مجموعة «محكمة الشعب» تستعد لدخول الساحة إضافةً الى مجموعات أخرى. عندما دخلت هذه المجموعات إلى ساحة الشهداء تنفس الجميع الصعداء. حسناً، ليست المشاركة على مستوى تظاهرة 29 آب، ولكنها كافية للقول إن الاحتجاجات مستمرة والتحدّي لا يزال في الشارع.
في الساحة، كانت أغلبية الناس تتوزع على مجموعات لدى كل منها مطالب مختلفة. كان هناك المستأجرون (القدامى) الذين رفعوا شعارات تطالب بحق السكن وهتفوا ضد السلطة التي تريد أن تشرّدهم. حضر هؤلاء المسنّون مع أولادهم ليقولوا إنّهم لن يرضخوا، لا هم ولا أولادهم، لقانون الإيجارات الجديد. على بعد أمتار، وقفت مجموعة من الأساتذة المنتمين إلى التيار النقابي المستقل. طغت سلسلة الرتب والرواتب على المشهد في هذه البقعة الصغيرة، لافتات وشعارات تنادي بحق الأساتذة بتحسين أجورهم وترفض الحوار مع السلطة التي أجّلت إقرار حقهم لسنوات. لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين حضرت أيضاً بمطالبها الخاصة. لا تزال الأمهات والزوجات يبحثن عن أزواجهنّ وأشقائهن وآبائهنّ منذ 40 عاماً من دون أي اعتراف من هذه السلطة. مجموعات كثيرة أخرى، لا علاقة لها بأزمة النفايات، حضرت أيضاً إلى الساحة رغبةً منها في التعبير عن مطالبها وحقوقها الاجتماعية والاقتصادية.
لكن على الرغم من تنوّع هذه التركيبة، كانت الملاحظة الأساسية على نوعية الاستجابة أمس، أن حضور مجموعات اليسار ومنظمات الـ NGOs كان طاغياً، وقد تراجعت مشاركة الأفراد من تلقاء أنفسهم، بعيداً عن انتماءاتهم الجماعية أو أطرهم المنظمة وشبه المنظمة، وهو ما كان قد ميّز تظاهرة 29 آب، ففي تلك التظاهرة ذابت هذه المجموعات بين جموع «غير الناشطين في الجمعيات والحملات»، أو بمعنى آخر الذين لا يشاركون عادةً بالتظاهرات، والذين حقق الحراك إنجازاً مهماً باستقطابهم، وهو ما يجدر الحفاظ عليه.
لأسباب عدّة كان
المنظمون يتوقعون مشاركة أقل من تظاهرة 29 آب
لم تمتلئ الساحة كما حصل في تظاهرة 29 آب، وهذا كان متوقعاً، إلّا أن الأعداد التي حضرت كانت كافية لتسجّل أنّ هذا الحراك لا يزال مستمراً وفعّالاً على الرغم من جميع المشاكل التي حصلت خلال الأسبوع الفائت. كذلك أسهم إغلاق وسط بيروت بهذا الشكل «الحديدي»، وإغلاق الإدارات الرسمية «بحجّة» العاصفة الرملية في تخويف الناس من النزول إلى الساحة. فهل كان هذا الطقس يستدعي التعطيل جدياً، أم أن التعطيل كان هدفه بث رسالة تخويف من مضار العاصفة بناءً على نصائح أمنية؟ الحكومة مسؤولة عن المجتمع ككل لا عن الموظفين لديها فقط، وبالتالي لو كان الخطر جدياً لكان عليها أن تطلب من جميع الناس ملازمة منازلهم لا موظفيها فقط، الذين كانوا ممنوعين أصلاً من الوصول إلى اشغالهم، في ظل إقفال وسط بيروت حيث تقع وزارات وإدارات كثيرة.
سهام عبدالله شاركت للمرة الأولى أمس في التحرك. تندم المرأة الخمسينية لعدم مشاركتها في السابق، تقول: «كنا ضايعين، نطرنا السلطة تعطينا حقوقنا وما صار شي». تنظر إلى الجزء الخالي من الساحة وتتنهّد قائلة: «إنشاء الله ما تكون الناس يئست أو ملّت. ما في محل لليأس أكثر من يلي عم يصير فينا شو بدو يصير؟ كرامتنا مدعوسة». مطالب سهام واضحة، تريد أولاً «إلغاء الطائفية السياسية»، وثم «خدمات اجتماعية: يعني مياه وكهرباء وإزالة النفايات». هل ستشاركين في التحركات المقبلة؟ تجيب بسرعة: «شو بيقرروا بالحراك منشوف. بدنا نفكر بالأول بعدين منمشي وراهن، ما بقا نمشي ورا حدا عالعميانة». لا تعوّل سهام إطلاقاً على طاولة الحوار فبرأيها «من جرّب المجرّب كان عقلو مخرّب. يريدون الحوار لينقذوا أنفسهم وليس الناس. بلحظة بيتّفقوا عالشعب».
أتت ميساء ابنة الـ 22 عاماً من الجنوب لتشارك في تظاهرة أمس. تقول إنها لا تعاني من أزمة نفايات في الجنوب، لكنها تشارك لأنها تعاني من أزمة كهرباء ومياه. هي ضد النظام الطائفي والفساد وتطالب بنظام علماني. لميساء رأيها في طريقة عمل المجموعات المنظّمة. تعترض على عدم معرفتها بالخطوات التصعيدية، تتساءل: «ماذا بعد؟ لا أحد يدري. نحن مع هذا الحراك وندعمه، لكنهم لا يقدمون لنا خطة واضحة». ترى الفتاة العشرينية أن التحركات يجب أن تبقى يومية وألا تفرغ الساحات، «لا يجب أن يقتصر الأمر على الاعتصامات. قالوا إنهم سيصعّدون فليذهبوا إلى العصيان المدني!». لا تعجبها «الخطوات الخفيفة» للحراك، «هل يظنون أن الإضراب عن الطعام ينفع؟». على الرغم من ملاحظاتها الكثيرة تقول ميساء: «إذا منضل هيك ما رح نعمل شي بس كمان ما فينا نتفلسف عليهم ونحنا قاعدين ببيوتنا».
عند نحو الساعة السابعة بدأ ممثلو المناطق بإلقاء كلماتهم وتُركت الكلمة الموحّدة للحراك إلى النهاية. تحدّث هؤلاء عن طرابلس والنبطية وعكار وبرجا وصور… سيطرت الهموم المعيشية على الكلمات وتحديداً مسألة البطالة وأزمة الكهرباء. قاربت هذه الكلمات المطالب الفعلية للناس الموجودين في الساحة. كلمة الحراك الموحدة لم تأتِ بجديد. المطالب لا تزال نفسها: حل فوري وبيئي لإزالة النفايات، تحرير أموال البلديات، رفض المطامر والمحارق والمكبات وردم البحر. استقالة وزير البيئة، محاسبة وزير الداخلية والمعتدين على المتظاهرين، إطلاق سراح جميع المعتقلين وإجراء انتخابات نيابية دستورية تضمن تمثيل جميع اللبنانيين. لم تعلن المجموعات المنضوية في هذا الحراك أي خطوات تصعيدية. لم تقل للناس ماذا سيحدث في الأيام المقبلة؟ ترك هذا الأمر لدى المتظاهرين أسئلة كثيرة. فهؤلاء يريدون جدياً أن يشاركوا في «صناعة الحدث»، عبّر البعض عن انزعاجه من أنّ «المنظمين يتصرفون كما السلطة، لا يخبروننا شيئاً ويريدون منا أن نلبي دعواتهم دائماً». كذلك إنّ إصرار المنظمين على اعتبار النفايات المحرك الأساسي للشارع يدفع الحراك إلى موقع مناطقي، حيث إنّ غالبية الذين نزلوا لا تعنيهم فعلياً أزمة النفايات ويريدون أن يرتفع سقف المطالب ليحاكي حاجاتهم ومصالحهم.
اعتراضات كثيرة سُجّلت على تنظيم «تظاهرة» أمس، وقد ثبتت من خلال ردود فعل الناس عند الانتقال من ساحة الشهداء إلى وزارة البيئة. فالمسرح الذي وُضع في ساحة الشهداء والشاشة العملاقة ومكبرات الصوت حوّلت التظاهرة إلى ما يشبه «الاحتفال». صادرت الأغاني، التي لم تتوقف، أصوات الناس وهتافاتهم. أصبح هؤلاء يسرقون لحظات نادرة ليصرخوا ويغضبوا ويعبروا عن مطالبهم. المسرح والشاشة حوّلا الناس إلى مشاهدين وليسوا مشاركين، ما ألغى بالكامل مفهوم التظاهر. حتّى عندما أُعطي الناس مجالاً كي يصرخوا، كان هناك على المسرح من يفرض عليهم ماذا يقولون. المحطة الأخيرة التي كانت على «جدول التظاهرة» هي التوجه نحو خيم المضربين عن الطعام. عندما انتقل الناس إلى وزارة البيئة تغيّر المشهد بالكامل. ابتعدوا عن المسرح وأضوائه والشاشة ومكبرات الصوت واستعادوا أصواتهم. عادت الهتافات التي اعتدناها من «فاهيتا طاووق ارحل يا مشنوق»، وصولاً إلى «الشبيحة». قرابة الثامنة مساءً، توزّع عدد من المتظاهرين بين مداخل وزارة البيئة، بالقرب من خيم المضربين عن الطعام، وساحة رياض الصلح. في الواقع، إنّ من «يداوم» على التظاهرات يألف تلك المساحة ويعتاد فكرة التنقل بينها هرباً من القوى الأمنية تارة وسعياً إلى إيجاد مكان مريح وآمن، من المُشاغبات المرتقبة. هكذا كان المشهد مساءً، متظاهرون ألفوا المكان، أزاحوا التظاهرة «المنمّقة» واستعدّوا لإثارة المُشاغبات، ولكن حظهم العاثر كمن هذه المرة بوجود أوامر جدّية لدى عناصر قوى الأمن بعدم الانجرار إلى أي صدامات عنفية.
«ما حدا يقللي سلميّة»، يصرخ أحد المتظاهرين المجتمعين عند مدخل مبنى العازارية، في إشارة منه إلى ضرورة اعتماد الشغب منهجاً لفرض معادلة تنبه السلطة إليهم. يقول أحد الضباط لمتظاهر يقف إلى جانبه: «عيطوا للصبح، طالما انت سلمي ما حدا بيقرّب صوبك، بس اللي بدو يشاغب بدو ياكلها ما في مجال». كانت هناك «نيّة» أو ربما رغبة ظاهرة لدى العديد من المتظاهرين بالاحتكاك مع القوى الأمنية، أزاحوا الحواجز الحديدية، و»اجتاحوا» ساحة رياض الصلح وحاول بعضهم إزالة الأسلاك من دون أن يتمكنوا من النجاح، لم يكن كل ذلك مخططاً له، إنما أراد الشباب التأكيد أن «كل الساحات ساحاتنا»، الأمر الذي استدعى استقدام المزيد من عناصر القوى الأمنية وقوى مكافحة الشغب. اللافت أن هناك بعض المنظمين الذين كانوا يحذّرون من دخول ساحة رياض الصلح: «اللي بيفوت على مسؤوليته»، علماً أن المعتصمين هناك كانوا فعلياً يتظاهرون أمام الأسلاك الشائكة فيما العناصر الأمنيون، يحتشدون عند مداخل مبنى العازارية وجامع الأمين.
لبنان الأخبار مجتمع مدني