الطفلة أمل سكاف .. قُتلت مرتين!

Friday, 3 July 2015 - 12:00am
جلسة جديدة بعد أسبوعين في الدعوى ضد المستشفى
بيدين ملفوفتين بلفافةٍ بيضاء تضـــحك إيلا طنوس وكـــأنها غير عابئةٍ بما سيكون عليه مستقبلها. ومع رنين الضحكة يمتــزج صوتٌ آتٍ من البعيد لطفلةٍ تسأل: «هل تذكرونني؟ أنا أمل، الطفلة التي رحلت بهدوء».
ليست القضية جديدة. خمسة أشهر مرت على رحيل ابنة الخمس سنوات. أمل سكاف، اسمٌ طُبع في ذاكرة المحبين لكنه مُحي من التداولا الإعلامي. في العاشر من كانون الثاني من العام الحالي بدأ العد العكسي لحياة الطفلة. دخلت طوارئ «مركز كليمنصو الطبي» في بيروت بسبب إسهالٍ حادٍّ أصابها. انتظرت أمل المُنهَكة أكثر من سبع ساعاتٍ، ذلك لأنّ الإدارة رفضت دخولها المركز قبل تسديد مبلغٍ قدره 2500 دولار أميركي. وعلى الرغم من أوضاعه المالية المتواضعة استطاع والدها علي تأمين المبلغ «من تحت الأرض» كي تدخل للمعالجة.
وُعدت العائلة بخروج طفلتها بعد يومٍ واحدٍ حداً أقصى. أصرّت الطبيبة المعالجة على أنها لن تحتاج إلى وقتٍ أكثر من أجل تعويض جسدها السوائلَ التي فقدتها نتيجة إصابتها بالإسهال الحادّ. لكنّ توقّعات الطبيبة لم تُصِب. تحوّل اليوم الواحد إلى سبعة أيامٍ وحال الطفلة من سيئ إلى أسوأ.
عُزلت أمل في غرفةٍ منفردة وذلك بسبب إصابتها بفيروس «الروتا» المُعدي، حيث اقتصرت الزيارات على والديها فقط. معاناة الأيام السبعة في تلك الغرفة كانت أصعب من الوصف. واظبت الطبيبة على تغيير المصل، لكنها فقدت السيطرة على الوضع. أعلنت (ج. ع) استسلامها، وطلبت من الوالد أن يعرض الملفّ على أي طبيبٍ آخرٍ يراه مناسباً. فيروس الروتا، الذي كان سبباً في إصابتها بالإسهال، لم يكن وحدَه ما اجتاح جسد أمل العليل. حديثٌ دارَ باللغة الإنكليزية بين (ج. ع) وأحد أطباء المركز أمام والدة أمل أوضح الصورة: الطفلة التقطت فيروساً آخر أدى إلى تدهور حالتها سريعا. أصيبت الطفلة بفشلٍ كلويّ، خزّن على إثره جسدها الكثير من الماء فانتفخ.
الدعوى القضائية
بما أن «كليمنصو» يفتقر إلى تجهيزاتٍ لغسيل الكلى، قام الوالد بنقلها إلى مستشفى «أوتيل ديو» لتلقي العلاج. «صارت منتهية»، بهذه العبارة للطبيب المشرف على الحالة في «أوتيل ديو» توقف أمل الوالد بتعافي ابنته. في اليوم نفسه، تعطلت أعضاؤها الحيوية بنسبة 80 في المئة، البنكرياس، الكبد، القلب، لتدخل في غيبوبة وتفارق الحياة بعد أسبوعٍ من نقلها.
يتنهّد «أبو أمل» وهو يعيد سرد الحكاية للمرة الألف. حكايةٌ متعبة، فلا أحد يعتاد سرد قصة وفاة طفله.
وعلى الرغم من أن أمل لم، ولن تخرج، يوماً من ذاكرة والدها، إلا أن قضية الطفلة إيلا طنوس أعادت سكب الملح على الجرح من جديد. ليست مصطلحات «الأخطاء الطبية»، «إهمال المستشفى والطاقم الطبي»، «غياب التجهيزات الطبية»، «التشخيص الخاطئ»، والتي ارتبطت بقضية إيلا، جديدةً على والد أمل. يوم ذهبت صغيرته من الحياة وقف ليشكك بوجود خطأ طبيّ من قبل الطبيبة والمســتشفى. وقد أكــــمل الوالد شكوكه برفع دعوى قضائية على الطبيبة المعالجة وعلى مستشفى «كليمـــنصو» بتهمة «التسبب بالوفاة عن غير قصد نتيجة التشخيص الخـاطئ للحالة».
بدوره، يختصر محامي الجهة المدّعية سامر بعلبكي، الحكاية: «المشكلة في التشخيص الخاطئ، الذي أدى إلى العلاج الخاطئ». يضيء كذلك على الأخطاء التي لا تُغتفر والتي حصلت داخل المركز «في أحد الأيام تُركت الطفلة من الساعة العاشرة صباحاً وإلى اليوم التالي من دون أن يُشرف عليها أحد»!
يُشير بعلبكي إلى أنّه «بعد أسبوعين من اليوم موعد الجلسة الثانية للبتّ في القضية». وكانت الجهة المُدّعى عليها قد أبلغت الجهة المُدّعية قبل ربع ساعةٍ من الجلسة الأولى أنّ هذا الملفّ قد أُقفل من قبل وزارة الصحة، وأن لا طائل من متابعة القضية. وكأنّ في الأمر نوعاً من معرفة مسبقة لتفاصيل الملفّ الذي كانت وزارة الصحة قد شكّلت لجنةً في وقتٍ سابقٍ للتحقيق فيه.
كما يلفت الانتباه إلى أنّ عقوبة «التسبب بالقتل عن غير قصدٍ قد تتراوح بين ثلاثة أشهر وثلاث سنوات»، مشيراً إلى أنّ «المركز يتطلّب منه دفع تعويض يحدّده القضاء إذا ثبت جرم الإهمال».
مركز «كليمنصو» رفض التّعليق على القضيّة فـ «لا كلام مع أي وسيلة إعلاميّة في ما خصّ هذا الموضوع».
عجز طبي أم لا أخلاقية مهنية
يحتاج البت بالقضايا الطبية إلى لجانٍ وتحقيقٍ طبيٍّ، لكن الإهمال و «اللاإنسانية» اللذين يمارسهما بعض المستشفيات بات فعلاً لا يُحتمل. فأي قانونٍ يرضى أن يقف المريض على عتبات المستشفيات ويُمنع من الدخول والعلاج حتى يسدد مبالغ طائلة لا قدرة له على تسديدها؟ وأي مادةٍ قانونيةٍ تمنع مريضاً آخرَ من الخروج قبل تسديد مبالغ طائلة هي الأخرى؟ وهل يجب على المواطن دائماً أن «يستأذن» الواسطة قبل أن يمرض؟ وهل عليه دائماً أن يحضّر نفسه لمواجهة نقابةٍ من المفترض أنها ترى الطبيب بعين والمريض بالعين الأخرى؟ وإذا كانت النقابة تشكّل عماداً لأطباء لبنان فمن يشكل سنداً لمواطنيه؟ وإلى متى يبقى المريض، الذي ينصّ القانون على حقه بمعرفة تفاصيل حالته الطبية من قبل الطبيب، ضحية اتّهامه بالجهل؟ وهل يجدر به نهب «مغارة علي بابا» حتى يتمكن من دخول المستشفى؟ من يُفسّر طلب «كليمنصو» من علي مبلغاً قدره 10 آلاف دولارٍ أميركي خلال وجود الطفلة في المستشفى، ثم الاستغناء عن هذا المبلغ «المتواضع» عند طلبهم نقل أمل إلى مستشفى آخر؟ هل يفي وزير الصحة وائل أبو فاعور بـ «قص راس اللي كان السبب» في قضية أمل كما قال لوالدها؟
لا يفقهُ علي للأمور الطبية، ولا يهتمّ لأيّ نوع من «الحصانات» التي قد يتمتّع بها الطبيب. جلّ ما يعنيه معاقبة من قد يكون أهمل في استقبال، وتشخيص، وعلاج ابنته. انتظارُ التحقيقات هو أقصى ما يمكن أن يقوم به. ليس التعويض عن الطفلة هو ما يدفعه لمتابعة رفع الدعوى، فرحيل أمل لا يعوّض. لكنّ علي يُريد محاسبة من أخطأ. يُريد أن يوصلَ رسالةً إلى الجميع أنّ رحيل تلك الفتاة، «التي لا تشبه فتاةً أخرى»، لن يمرّ. وعلى الرّغم من عدم إيمانه بأنّ حقّاً يُمكن أن يُؤخذ في هذا البلد، إلا أنّ الاستسلام ليس مطروحاً أبداً.
أمل رحلت، وهي لما تدخل بعد صفها الأول. وبدل أن تُطفئ شمعة عيد ميلادها السادس أطفأت شموع حياتها، بل أطفأوها لها. كان لديها الكثير، ضحكٌ ولعبٌ وطفولة. كان لديها شقيقان يتشوّقان لرؤيتها تكبر وهي صغيرتهما المدلّلة. وأمٌّ تودّ تمشيط شعرها كلّ صباحٍ قبل ذهابها الى المدرسة. وأبٌ يودّ مراقبتها تلعب وتضحك وتدرس وتنجح و «تشيطن»، لتنام آخر النهار على يديه.
لم تكن أمل هي المريضة، كانت تودّ أن تعيش حياتها بأمل، لكنّ أحداً أهمل هذا الجزء وراح يطبّق ما يعرفه وما لا يعرفه على جسدها الهزيل. على سريرٍ تحيطه رائحة الموت، وبين يدي الوجع لم تفارق الابتسامة وجهها الصغير. ودّعت أمل الدنيا بضحكةٍ عالية ممزوجة بالألم. وعلى عكس ضحكة إيلا المستقبلة للحياة، كانت ضحكة أمل ضحكة وداع.
وبين قصص أمل وإيلا وحنّا بشراوي، العريس الذي راح ضحية خطأ طبي، وغيرهم الكثير، تقف قطبةٌ مخفيّة. وعلى الرغم من أن التحقيقات تدور حولها، إلا أنّ تلك القطبة يشوبها الكثير من الظلم واللاإنسانية. قطبةٌ مخيفةٌ تأخذ أرواح المرضى تباعاً أو تجعلهم يعيشون المعاناة طوال حياتهم.

لبنان ACGEN اجتماعيات استشفاء السغير