الدمج التربوي للمتعلمين المكفوفين في لبنان

نظمت «السفير» و»جمعية الشبيبة للمكفوفين» مسابقة لكتابة مقالة حول عدد من المواضيع التي تهمّ الشباب الكفيف في لبنان. وتنشر «السفير» أحد المقالات الفائزة فيها، وهو بقلم خلود حجار بعنوان «الدمج التربوي للمتعلمين المكفوفين في لبنان»، الذي فاز بالجائزة الثانية.
قد يستغرب البعض تعلّم الأشخاص المعوقين في مدارس عادية جنباً إلى جنب مع زملائهم غير المعوقين، لكن ذلك الاستغراب هو بحد ذاته مُستغرب، فالدمج هو الأفضل لتأمين حق المعوق بالتعلم بشكل متكافئ، وذلك ما تثبته التجارب والعلم. ولوحظ في لبنان عدم تقبل فكرة الدمج، لكن المساعي الدؤوبة والجهود المتواصلة التي تقوم بها جمعيات الأشخاص المعوقين ساهمت وتساهم في تكريس تعليم المعوقين في المدارس العادية من خلال برامج دمج تربوي.
الدمج التربوي هو عملية إدخال الطلاب المعوقين بمن فيهم الأطفال، إلى المدارس العادية وذلك بعد تأمين الظروف المناسبة والتي تضمن لهم الحصول على التعليم على قدم المساواة مع زملائهم من الطلاب غير المعوقين. وكي يكون الدمج ناجحاً، يجب تأمين الظروف الملائمة لاحتياجات الطلاب المعوقين، التي تشمل بالإضافة إلى تأمين الوسائل التي تضمن حصول هؤلاء على التعليم ضمن النظام التعليمي العام، تأهيل البيئة الهندسية، وسهولة الحصول على المعلومات، وتكييف المناهج بحيث تتلاءم مع احتياجات الطلاب المعوقين، وتوعية الطلاب من غير المعوقين، وإعداد وتدريب المعلمين، كي يحسنوا التعامل مع الطلاب المعوقين وخصوصاً الأطفال منهم.
ومن خلال التجربة اللبنانية، هناك نوعان من الدمج التربوي. الأول هو الدمج الجزئي، وهو ما تقوم بتنفيذه بعض المؤسسات الرعائية، وهو يقوم على إرسال طلاب المرحلتين المتوسطة والثانوية إلى المدارس العادية لتلقي التعليم ضمن صفوفها. لكن المستهدفين ضمن ذلك النوع من الدمج، يقيمون في المؤسسات بعيداً عن عائلاتهم حيث يتلقون شتى أنواع المساعدات التعليمية التي تمكنهم من تخطي الصعاب التي يواجهونها في مدارسهم الدامجة. ذلك ما يمارس في لبنان. أمّا علمياً، فالدمج الجزئي هو دمج الطلاب في بعض المجالات في حين يتلقى الطالب منهجاً تربوياً مخصصاً له.
والنوع الثاني هو الدمج الكلي أو الدمج النموذجي، وهو الذي يرتكز على دمج الطلاب ذوي الإعاقة بمن فيهم الأطفال وبشكل كلي في المدارس العادية، وتأمين المساعدات التعليمية لهم ضمن هذه المدارس. في هذه الحالة يقيم الطلاب المعوقون مع عائلاتهم. هذا النوع من الدمج يُعتمد من قبل بعض الجمعيات في لبنان وفي مقدمتها «جمعية الشبيبة للمكفوفين».
وللدمج التربوي تأثيرات عديدة في المجالات الثقافية والاجتماعية والمهنية. وللإحاطة بتلك التأثيرات علينا حصر مناقشتنا هذه بالدمج التربوي الكلي أو النموذجي لأنه يمثل الدمج المثالي ويعطينا الصورة الحقيقية للدمج. إن فوائد الدمج الكلي لا تطال فقط الأشخاص المعوّقين بل تطال أيضاً عائلاتهم والمدارس التي يدرسون فيها والبيئة الاجتماعية التي ينتمون إليها.
من دون شك في أن للدمج التربوي تأثيرات عدة في المجال الثقافي، وعلى أكثر من طرف. فمن ناحية الأشخاص المعوقين، يترك الدمج التربوي تأثيرات كثيرة عليهم منها، شعور الطالب المعوق بأنه يعيش ضمن بيئة تربوية عادية، لا تختلف عن تلك التي يعيش فيها زملاؤه، وهو بالتالي يتلقى التعليم نفسه الذي يتلقونه. بالإضافة إلى أن وجود الطالب المعوق ضمن البيئة التربوية الدامجة يشعره بإمكانية تخطي ما يعترضه من حواجز، لا سيما بعد تخطيه للحاجز الأكبر الذي كان يفصله عن وجوده في المدارس العادية.
ومن خلال الدمج التربوي يتمكّن الطالب المعوق من الحصول على المعلومات والاطلاع على الوثائق والدراسات كافة المتوفرة لزملائهم. أما على صعيد البيئة المدرسية، فالدمج التربوي يترك الكثير من اللمسات الحضارية التي تنمّ عن وجود نظرة حقوقية لدى القيمين على المدرسة. أما الطلاب من غير المعوقين، فيدخلون في تجربة حضارية راقية، تعلمهم الكثير من الدروس، ليس أقلها كيفية التعاطي مع الأشخاص المعوقين، وهذه بحد ذاتها تجربة ثقافية لا يمكن الحصول عليها إلا ضمن ذلك النوع من البيئة المدرسية.
وللدمج التربوي تأثير كبير على الصعيد الاجتماعي يطال تحديداً الطلاب المعوقين وعائلاتهم، بالإضافة إلى بعض التأثير الذي يتركه على البيئة الاجتماعية بشكل عام. فالأطفال المعوقون يعيشون من خلاله حياة اجتماعية طبيعية كسائر الأطفال، ولا يحرمون من الرعاية والحب والعطف والحنان التي يؤمنها لهم جميعاً الاحتضان العائلي الذي يحاطون به أثناء تواجدهم الدائم والطبيعي في المنزل وبين أفراد الأسرة التي ينتمون إليها. وبسبب هذه المعادلة، لا يشعر الشخص المعوق وخصوصاً الأطفال بأنهم فقدوا مكانهم ضمن العائلة كما يحصل مع الكثيرين من الذين يقصدون المؤسسات الرعائية للإقامة فيها. إن الحياة المدرسية العادية بين الطلاب غير المعوقين تساعد في تقبل الاختلاف ما يؤدي إلى زيادة الثقة بالنفس. ويؤثر الدمج التربوي أيضاً في عائلات وأسر الطلاب المعوقين، بحيث انه يلزمهم بتحمل مسؤوليات أبنائهم من المعوقين ويعوّدهم على متابعة شؤونهم اليومية كما هي الحال مع سائر أبنائهم. أما البيئة التربوية والاجتماعية، في ظل الدمج التربوي، فتبدو أكثر اتساعاً وأكثر تنوعاً وربما تأخذ شكل الصورة المصغرة للمجتمع الذي نعيش فيه.
ولا تقتصر تأثيرات الدمج التربوي على المجالين الثقافي والاجتماعي، بل تتعداهما نحو المجال المهني، حيث تبدو تلك التأثيرات واضحة في اختيارات الطلاب المعوقين المستقبلية. فالطلاب يختبرون الحياة كما هي، وعلى واقعيتها وقسوتها أحياناً، وذلك من خلال البيئة المدرسية الدامجة، ما يفرض عليهم حسن اختيار المهنة أو الاختصاص الذي سيلجأون إلى اختياره كمصدر لتوفير العيش الكريم. ومع وجود المجال المهني إلى جانب المجال التربوي تنفتح أمام الطلاب المعوقين الكثير من أبواب التخصص. ومن ناحية ثانية، تسمح البيئة المدرسية الدامجة بالاطلاع على قدرات المعوقين وإمكانياتهم ومهاراتهم التي تخول لهم ممارسة الكثير من المهن وبكثير من البراعة والاتقان، كغيرهم من الأشخاص. وتلك البيئة نفسها، تؤهل الطلاب المعوقين لمعاركة الحياة، خصوصاً الشق المهني منها، وذلك بعد انتهاء المرحلة الدراسية والانتقال إلى المواجهة الفعلية لتحديات الحياة وصعابها.
ويمكن القول إن الدمج التربوي الكلي يجسد حلاً نموذجياً لتعليم متكافئ للمعوقين مع زملائهم غير المعوقين، ذلك بالطبع إذا توفرت له الظروف المناسبة التي تتطلب تدخّلاً جدياً من الدولة. تلك هي التأثيرات الإيجابية للدمج التربوي، من دون الخوض في الصعوبات. لكن الصعوبات تقنية وتحل عبر تحضير البيئة لتصبح بيئة دامجة. لكن الأمر المؤكد يبقى دائماً أن حق الشخص المعوق في التعلّم لا يجـــب أن يعطى له على حساب بقائه في بيئته الطبيعية، وخاصةً أن الدمج التربوي يؤمن التعليم الأفضل له.(20 كانون الأول2010)